عضو المكتب السياسي بحزب العدل
منذ إتمام صفقة رأس الحكمة مع الجانب الإماراتي، والحكومة في مصر تصفها بالإنجاز وتسعى جاهدة لتسويق صفقات مشابهة معتقدة أن مثيلات تلك الصفقة قد تكون المنقذ للظرف الاقتصادي المر الذي تعايشه الدولة، خاصة مع الاعتبار للمردود المالي الضخم على المدى القريب والمتوسط، وهو ما يستدعي التوقف قليلا حول فكرة إيجاد حلول تمويلية عن طريق الانخراط في الصفقات العقارية الضخمة من منظور اقتصادي.
وبداية، فهذه الصفقة تُصنف ضمن الاقتصاد الريعي، والذي يعد نموذجا اقتصاديا يعتمد بشكل رئيسي على عائدات الموارد الطبيعية أو الأصول المملوكة للدولة، مثل النفط، أو الغاز، أو المعادن، أو حتى الأراضي الزراعية، أو أراضي مشروعات الإسكان الضخمة كما في حالتنا الآن، بدلاً من الإنتاج الصناعي أو الزراعي، حيث يعتمد هذا النوع من الاقتصاد على ريع – في الأغلب غير دائم- يتم الحصول عليه من استغلال هذه الموارد أو بيعها، وغالبا ما يكون تحت سيطرة الدولة أو الشركات الكبيرة المملوكة لها، أي أنه مفهومه يقوم على أن الدولة تحقق دخلًا بدون مساهمة كبيرة في الإنتاج أو تقديم خدمات جديدة، بل من خلال إدارة وتوزيع الريع.
ويرتكز الاقتصاد الريعي على عدة محددات رئيسية من أبرزها احتكار الموارد الطبيعية من قِبل الدولة وشركاتها بما يؤدي إلى تركز الثروة في يد قلة قليلة من الفاعلين الاقتصاديين، كما يعتمد على غياب التنوع الاقتصادي، حيث تكون الموارد الطبيعية هي المصدر الأساسي للدخل، بما ينتج ضعفا في القطاع الإنتاجي وانخفاض الاستثمار في البحث والتطوير أو الابتكار، وحال التركيز الكامل عليه لسهولته ومردوده السريع مقارنة بالإنتاج، يجري الاعتماد على استيراد السلع والخدمات الأساسية بدلاً من إنتاجها محلياً، مما يؤدي إلى إضعاف الإنتاجية المحلية وزيادة الاعتماد على السوق الخارجية.
وعلى الرغم من أن الاقتصاد الريعي قد يقدم بعض الفوائد على المدى القصير، إلا أن سلبياته تتفوق بشكل واضح على مزاياه، خاصة مع الاعتماد المفرط على مورد واحد أو عدد محدود من الموارد، بما يجعل الاقتصاد عرضة للتقلبات الخارجية، مثل انخفاض أسعار النفط أو الغاز في حالة دول الخليج على سبيل المثال، أو أزمة عالمية تؤثر على أسعار العقارات كما في 2008، ناهيك عن إشكالياته المرتبطة بتركيز الثروة في يد فئة محددة تسيطر على الموارد، بما يجعلها قادرة على توجيه السياسات الاقتصادية لصالحها، وهو ما يعزز الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين المواطنين.
أيضا يُمكن أن يؤدي الاعتماد على الريع إلى تقليص الحافز للاستثمار في القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة، وهو ما يؤدي إلى تدهور القدرة الإنتاجية على المدى الطويل، ويخلق أيضا اقتصاد غير متوازن يعتمد على تقلبات السوق الخارجية وليس على قدرته الإنتاجية الداخلية، بما يؤكد تعدد إشكاليات الانخراط المستمر في هذا النشاط حتى وإن كان اللجوء إليه تم تحت ذريعة الأزمة.
وفي دراسة مقارنة بين الاقتصاد الريعي والاقتصاد الانتاجي، اعتبر الدكتور خالد عبد الفتاح أن الاقتصاد الريعي “يعتمد على منتَج منتهٍ”، حتى لو بعد أزمان طويلة، مشيرا إلى أنه يعزز ثقافة الاتكال على الأرض أكثر من الاتكال على العمل، وغالبا ما يرتبط هذا النشاط بما يعرف بالدولة “الكوربوراتية”، الـ Corporate statism وهي الدولة التي تسيطر على جميع مفاصل الحياة، فيصبح الريع هو سند تتمكن من خلاله من الهيمنة المستمرة على الأمور، وهو ذات المفهوم الذي تناولته كذلك الدكتورة خديجة بوعامر في دراسة بعنوان “دور الريع في استمرار نمط الدولة الكوربوراتية في العالم العربي”
و استعرضت “بوعامر” دور الحكومات اقتصاديا فى النظم المختلفة، حيث رأت ان أدوار الحكومة في النظم الديمقراطية هو تحصيل المداخيل وتوزيعها على المواطنين، إلا أن عملية التوزيع تقوم بحيادية ومن دون أسباب شخصية، ويكون التوزيع عاما بقدر المستطاع ولمصلحة عامة، بينما الريع في الدول الكوربوراتية يذهب إلى فائدة مجموعات معينة، تكون مرتبطة بالقيادة وفائدة النخب ضمن عمل شبكات المحسوبية على حساب باقي الشبكات
و أشارت الدراسة إلى أن العلاقات في تلك الدول بين الدولة والمجتمع تتحول إلى علاقات زبائنية، حيث يقوم الأتباع بالحصول على فوائد من الدولة، لكن هذه الفوائد هي بالأساس متأتية من ريع تحصل عليه الدولة ويقوم النظام بتوزيعه لكسب الولاء.
ورغم هذه السلبيات، هناك دول استطاعت تحقيق بعض الفوائد من الاقتصاد الريعي شرط إدارة الموارد بشكل صحيح، من خلال الاعتماد عليه ليكون مصدرًا ثابتًا للدخل يسمح للدولة بتمويل مشاريع تنموية أو برامج اجتماعية تعزز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، كما يمكن استخدام عائدات الموارد الطبيعية في تطوير البنية التحتية، وتمويل مشاريع التعليم والرعاية الصحية، مما يعزز من جودة الحياة للمواطنين، وهو ما يجب أن يمثل خارطة طريق تتوازن مع الاتجاه للاعتماد عليه.
مثلا دول الخليج العربي، والتي تعتبر نموذجا للاقتصادات التي تعتمد على النفط كمصدر رئيسي للدخل، إلا أن هناك جهودًا كبيرة تُبذل في هذه الدول لتطوير قطاعات أخرى غير نفطية مثل السياحة، والتكنولوجيا، والخدمات المالية، بما يضمن الاستمرارية، إلا أنه في المقابل، هناك دول لم تتمكن من إدارة اقتصادها الريعي بشكل فعّال، ومنها فنزويلا، التي شهدت أزمة اقتصادية حادة نتيجة الاعتماد المفرط على النفط، ومع تراجع أسعار النفط عالميًا، انهار الاقتصاد الفنزويلي، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والسياسية، ومثلها تجربة نيجيريا.
أي أنه للاستفادة من الاقتصاد الريعي وتجنب محاذيره، يجب على الدولة تبني سياسات اقتصادية تتسم بالتنوع والاستدامة، أخصها توجيه جزء كبير من العائدات الريعية نحو تطوير القطاعات الإنتاجية وكذا العمل على خلق اقتصاد مستدام يقوم على المعرفة والابتكار بدلاً من الاعتماد على الموارد الطبيعية، وأيضا لا بد من مراعاة تعزيز دور القطاع الخاص من خلال تقديم حوافز للاستثمار في المجالات المختلفة، ما يساهم في تقليل الاعتماد على الدولة كمصدر رئيسي للدخل، ويُخدم على سياسات اقتصادية تشجع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتطوير الصناعات التحويلية.
وفي تقديري، فإن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية إدارة العائدات وتوجيهها نحو تنمية الاقتصاد الإنتاجي، خاصة وأن هذا النوع من التصرفات لا يمكن الاعتماد عليه من منظور اقتصادي سليم، سوى لمعالجة وقتية لفجوات تمويلية تولدت بسبب إدارة اقتصادية تهتم بجانب الإنفاق -الجزء السهل- أكثر من اهتمامها بتوليد القيمة، إلا أنه في إطار التعامل مع الاقتصاد كمشروع مستمر، حتما ستقع الإدارة الاقتصادية في فخ البحث المستمر عن تمويل لهذا “المشروع”، في ظل أن طموحاتها تفوق قدرات الدولة في أحيان كثيرة بما يدفعها إلى اللجوء إلى الاقتراض وهو ما يفرض لاحقا مثل هذا التوجه الخطر لاستعدال الكفة المائلة.