روان صبح تكتب:
في نهاية عام 2019، أطلقت المفوضية الأوروبية واحدة من أكثر الخطط طموحًا في التاريخ البيئي والاقتصادي للقارة العجوز “الصفقة الخضراء الأوروبية”، وهي خطة شاملة تهدف إلى تحويل أوروبا إلى أول قارة محايدة مناخيًا بحلول عام 2050.
هذه الصفقة لا تقتصر على كونها سياسة بيئية، بل تمثل إعادة هيكلة شاملة للنموذج الاقتصادي الأوروبي لدمج الاعتبارات المناخية في كل قرار استثماري وكل اتفاق تجاري وكل عملية إنتاجية، ولعل أكثر ما يميز هذه الخطة هو أنها تضع المناخ على طاولة التفاوض التجاري، وتفرض على شركاء أوروبا أن يواكبوا هذا التحول أو يتحملوا تبعاته.
من بين الآليات الجوهرية لتنفيذ الصفقة تأتي “آلية تعديل الكربون على الحدود”، التي تمثل نقلة نوعية في السياسة التجارية للاتحاد الأوروبي.
هذه الآلية، التي ستبدأ تدريجيًا عام 2026، تعني ببساطة أن المنتجات التي تدخل السوق الأوروبي والتي تنتج في دول لا تطبق سياسات صارمة لخفض الانبعاثات، ستكون عرضة لرسوم إضافية تعادل ما يدفعه المنتج الأوروبي من تكلفة كربون.
هذا التوجه يعيد تشكيل قواعد المنافسة العالمية، ويضع ضغوطًا على الدول المصدّرة، ومن بينها مصر، لتطوير منظومات صناعية أكثر استدامة.
مصر تُعد من الدول التي ستتأثر مباشرة بهذه التحولات، فهي تُصدّر للاتحاد الأوروبي منتجات تندرج ضمن القطاعات التي ستخضع لـ “آلية تعديل الكربون على الحدود”، مثل الحديد والصلب، والأسمدة، والألومنيوم، وهي قطاعات لا تزال تعتمد بشكل كبير على الطاقة الأحفورية ولا تمتلك حتى الآن أدوات دقيقة لقياس الانبعاثات أو نظم إفصاح بيئي تتوافق مع المعايير الأوروبية.
في حال لم تُحدث هذه القطاعات نقلة تكنولوجية، فإن صادراتها إلى أوروبا قد تواجه رسومًا باهظة تفقدها تنافسيتها، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا للميزان التجاري المصري مع أوروبا.
لكن في المقابل، يفتح هذا التحول الأوروبي الكبير فرصًا غير مسبوقة أمام مصر، فالتحول نحو الاقتصاد الأخضر يخلق احتياجًا متزايدًا في أوروبا للطاقة المتجددة، والهيدروجين الأخضر، والمواد الأولية ذات البصمة الكربونية المنخفضة، وهنا تبرز مصر كلاعب إقليمي يمكنه أن يسد جزءًا من هذه الفجوة.
مصر تمتلك واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم في بنبان، ومشروعات ضخمة لطاقة الرياح في خليج السويس، إلى جانب موقع استراتيجي يجعل الربط الكهربائي مع أوروبا مشروعًا قابلًا للتنفيذ.
كما أن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس باتت تستقطب استثمارات عالمية في مجال الهيدروجين الأخضر، مع توقيع عدة مذكرات تفاهم مع شركات أوروبية لتأسيس مصانع إنتاج وتصدير الوقود النظيف.
لكن هذه الإمكانات لا تكفي وحدها، فالتحدي الحقيقي يكمن في بناء بنية تنظيمية وتشريعية تواكب هذا التحول.
مصر بحاجة ماسة إلى سجل وطني لانبعاثات الكربون، وإلى توفير آليات دقيقة لقياس البصمة الكربونية للمنتجات الصناعية، وتقديم حوافز واضحة للشركات لتبني التكنولوجيا النظيفة. كذلك، فإن الحصول على التمويل الأخضر من مؤسسات مثل البنك الأوروبي لإعادة الإعمار أو صندوق المناخ الأخضر يتطلب بنية واضحة للإفصاح البيئي، وشفافية عالية في بيانات الاستدامة.
القطاع الخاص بدوره مطالب بالتحرك السريع نحو دمج معايير الاستدامة في عملياته، الشركات المصرية، خاصة تلك التي تعمل في التصدير، مطالبة اليوم بتبني أنظمة تتبع للانبعاثات، والحصول على شهادات اعتماد بيئي دولية، وتحديث تكنولوجي يضمن تقليل البصمة الكربونية، ومن دون ذلك، فإن دخول المنتجات المصرية إلى السوق الأوروبي سيصبح أكثر صعوبة وتكلفة.
الحكومة المصرية بدأت بالفعل بعض الخطوات الإيجابية، مثل إصدار أول سندات خضراء حكومية، وإطلاق استراتيجية وطنية للهيدروجين الأخضر، وتوقيع شراكات دولية في مجالات الطاقة النظيفة.
لكن هذه المبادرات لا تزال في طور التأسيس، وتحتاج إلى تسريع وتيرة التنفيذ وتكامل أكبر بين الوزارات والقطاع الخاص والمؤسسات المالية.
في النهاية، الصفقة الخضراء الأوروبية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العالمي، وتفرض واقعًا جديدًا على كل من يسعى للتعامل مع أوروبا. أمام مصر خياران: إما أن تستجيب بذكاء وتتحول إلى شريك أخضر لأوروبا، أو تتقوقع داخل نموذج صناعي قديم يُفقدها أسواقها تدريجيًا.
الفرصة لا تزال متاحة، لكنها تتطلب إرادة سياسية، ورؤية استراتيجية، واستثمارًا جادًا في التحول نحو اقتصاد المستقبل.
بقلم / روان صبح
أمين سر وحدة السياسات المالية والاقتصادية
#حزب_العدل#صوت_الطبقة_المتوسطة#العدل_هو_الأمل
