السياسة والفنون حوار مستمر بين السلطة والإبداع. فهما وإن بديا ميدانين مختلفين في الظاهر، إلا أنهما مترابطان بعمق عبر التاريخ، إذ لم يكن الفن يومًا مجرد مساحة جمالية للترف، بل كان مرآة لوجدان الشعوب وصوتًا لقضاياها السياسية والاجتماعية. وقد استخدم الفن في أحيان كثيرة كأداة للسلطة والدعاية، لكنه أيضًا ظل دائمًا ملاذًا للتعبيرعن إرادة الجماهير. ومن خلال اللوحات والمسرح والسينما والأدب والموسيقى وحتى الجرافيتي، صار الفن وسيلة لنقل الرسائل السياسية وإحداث التحولات المجتمعية، فهو في جوهره أداة للنقد والتغيير، فالسياسة قد تضع القوانين وتسن التشريعات، لكن الثقافة والفن هما ما يزرعان الوعي في القلوب، ويحوّلان المواطن من متلقٍ إلى فاعل، ومن فرد صامت إلى كائن يعي حقوقه وواجباته.
الأدب على سبيل المثال لعب دورًا محوريًا في تشكيل الوعي السياسي للشعوب. فالرواية والشعر والمسرح كانت دائمًا أكثر من مجرد إبداع فني، بل كانت صوتًا يفضح ويواجه . روايات فيكتور هوغو في فرنسا لم تكتف بسرد الحكايات، بل فضحت الفقر والظلم، لتصبح جزءًا من الخطاب الثوري الذي مهّد لتغيرات اجتماعية كبرى. وفي روسيا، شكّل الأدب عند دستويفسكي وتولستوي مرايا للإنسان في صراعه مع السلطة والفساد
أما في العالم العربي، فقد كان الأدب دائمًا في صلب السياسة، طه حسين حين دعا إلى مستقبل ثقافي مشترك كان يبني تصورًا سياسيًا لوطن متحرر بالعلم، ونجيب محفوظ في ثلاثيته لم يكن يسرد حكايات عائلية فقط، بل كان يكتب تاريخًا سياسيًا لمصر بأكملها في النصف الأول من القرن العشرين.حتى السينما لم تغب عن هذا الدور؛ فيلم الأرض ليوسف شاهين وفيلم البداية لصلاح أبو سيف لم يكونا مجرد أفلام، بل كانا مرآة سياسية عكست معاناة الشعب وأحلامه
الثقافة كذلك تعد العمود الفقري للوعي السياسي. من دون ثقافة، لا تتحول الشعوب إلى قوة واعية، بل تبقى رهينة الانفعال والشعارات. المثقف ليس مجرد حامل للكتب، بل هو ضمير الأمة الذي يقرأ الواقع ويقدمه للناس بلغة مبسطة. فعبر الندوات، الصحافة، المسرح، والسينما، قامت الثقافة بتنوير الجماهير، ودفعتها للمطالبة بالحرية والعدالة. كانت القراءة دومًا بداية الثورات، والوعي الثقافي هو ما جعل الشعوب تعرف قيمة الديمقراطية وحقها في المشاركة
وعندما تلتقي الثقافة بالفن، يصبح تأثيرها مضاعفًا. الأغنية الوطنية التي يتغنى بها الناس في الميادين لا تعيش في الفراغ، بل هي نتاج ثقافة تراكمت عبر الكتب والشعر والتاريخ . سيد درويش لم يكن مجرد ملحن، بل كان وجدان ثورة 1919، صوته يهتف بالوحدة الوطنية، ويعبر عن الفلاح والعامل، فيصير اللحن سلاحًا لا يقل قوة عن الكلمة.كذلك بيرم التونسي جعل من شعره الشعبي مرآة للشارع، وغنّت فيروز زهرة المدائن لتبقى رمزًا لنضال لا ينطفئ
أما الفن التشكيلي، فقد كان ولا يزال لغة صامتة للتعبير. لوحة “غيرنيكا” لبيكاسو لم تكن مجرد عمل فني، بل كانت صرخة مدوية ضد فظائع الحرب الإسبانية، وتحولت إلى أيقونة عالمية تفضح قسوة الحرب وتدين الطغيان.كذلك شكل فن الجرافيتي في الولايات المتحدة في ستينيات القرن العشرين وسيلة احتجاج للشباب ضد العنصرية وحرب فيتنام، بينما امتلأت جدران أوروبا الشرقية بالرسومات والجداريات التي كانت تسبق سقوط جدار برلين. وفي مصر، كان جيل الفنانين التشكيليين في ثورة 1919 وما بعدها يرسمون جداريات ومنحوتات تعبر عن الرفض والهوية الوطنية، ومحمود مختار نحت تمثال “نهضة مصر” ليصبح أيقونة وطنية.كما تحولت جداريات ثورة يناير في شوارع القاهرة إلى كتب مفتوحة تعكس غضب الناس وأحلامهم بالحرية. الفن التشكيلي لا يكتفي بالتعبير، بل يخلّد اللحظة، فيصير شاهدًا بصريًا على الحراك السياسي
وهكذا نستطيع أن نقول إن العلاقة بين السياسة والفن ليست علاقة تبعية بل علاقة جدلية متبادلة: الفن يمنح السياسة بعدها الإنساني، والسياسة تمنح الفن قضاياه الكبرى. إنهما الحوار المستمر بين السلطة والإبداع، بين العقل والروح، بين ما هو قائم وما يجب أن يكون
وحين يلتقيان على أرض الحرية، يولد التاريخ من جديد، وتتحول الفنون إلى صوت الشعوب الذي لا يخفت، والسياسة إلى ممارسة إنسانية تحمل معنى وكرامة
وفي النهاية، تبقى الثقافة والأدب والفنون بجميع أشكالها ليست مجرد ظواهر جانبية للحياة السياسية، بل هي قلبها وروحها. فالسياسة تصنع القرارات، لكن الأدب والفن والثقافة يصنعون الإنسان الذي يقرر.
يبقى الفن هو الذاكرة التي لا تُمحى، والسياسة هي اللحظة التي تُصنع، وما بينهما يولد التاريخ الحقيقي للشعوب…. #حزب_العدل#صوت_الطبقة_المتوسطة#العدل_هو_الأمل#رأي_العدل
