منذ أيام، ومع اقتراب افتتاح الدورة الخامسة والأربعين من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، طالعتنا الأخبار على لسان رئيس المهرجان، الفنان الكبير، حسين فهمي، معلناً عن استبعاد الشركات التي في قوائم المقاطعة من رعاية المهرجان.
كان لهذا الخبر _ رغم بساطته _ وقعاً سحرياً لدي.
ذكرني هذا الموقف بما كنا نمتلكه من قوة ناعمة، مكنتنا من غزو القلوب والعقول من المحيط إلى الخليج، بالفن الذي كنا رواده وصناعه الأبرز والأمهر والأجود والأغزر.
لقد كنا لفترات قريبة، نحن المتفردين، بل والمنفردين بصناعة الفن في محيطنا.
وكان للفن المصري الدور الكبير في دعم قضايانا الوطنية والقومية وتشكيل الوعي العام الجمعي داخليا، وحشد الدعم الشعبي الخارجي لتلك القضايا.
هذه هي القوة الناعمة القادرة على احتلال العقول والقلوب، وهذا هو تأثير التنوير الذي كانت مصر رائدته في منطقتنا العربية.
التنوير هو السلاح الوحيد القادر على صياغة مستقبل مختلف في أي زمان ومكان.
ومتى كان التنوير مزدهرا، كان المجتمع قويا ومتقدما. والعكس صحيح. فمع شيوع الظلام على حساب التنوير تتراجع المجتمعات وتتخلف.
مع الوقت بدأ عصر اضمحلال الفن المصري نتيجة لانهيار المؤسسات الثقافية والفنية المصرية، أمام غزو ثقافي بدوي، معادي للنور ومُكَرِّس للظلام.
عَبَدَ الطريق لذلك الغزو توجه رسمي، كان يرى وقتها، أن في تديين الدولة وإصباغ الهالات الدينية على رأسها، سبيلاً لمكافحة الأفكار الديمقراطية المناوئة ووسيلة للسيطرة على المجتمع.
نادى هذا الغزو بتحريم الفن وتقبيح العمل به عبر أبواقه الإعلامية، وصاحب ذلك رعاية شبه رسمية لحالات “التوبة” التي أضحت تتلاحق من الفنانين والفنانات المصريين.
وفي نفس الوقت كانت أموال أبواق أخرى تتبع نفس المؤسسات الراعية للتوبة في بعض الأحيان، تشتري أرشيفنا الفني وتحتكره وتمنع الأجيال من مطالعة ميراثهم الفني والثقافي إلا عبر قنوات يمتلكها مشتري الأرشيف!
لقد خارت قوتنا الناعمة عندما سمحنا للبداوة أن تحتل مكان مدنيتنا وحضارتنا.
عندما فتحنا مجتمعنا للظلام وأدواته؛ خَفُتَ النور، وتراجع التنوير، فقَلَ تأثيرنا.
والقاعدة الكونية تعلمنا أنه عندما يضعف تأثير الكبار، يعلو صوت الصغار!
أعقب هذا الاضمحلال والتردي للثقافة والفن التنويري، ظهور سينما جديدة تقوم على المكسب المادي فقط دون أية مراعاة للبعد الفني ولا للقيم الثقافية والفكرية التي ينبغي للسينما أن تراعيها. فالسينما هي مرآة المجتمع.
ظهرت وهيمنت أفلام البلطجي والمهرج والراقصة، واختفت بشكل شبه تام، أفلام المبدع والمثقف المؤثر في مجتمعه، واستمر الانهيار الثقافي والفني.
واستمر الظلام يتنامى والنور يتضاءل!
ولكن، يظل دائما هناك نور خلف جدارن الظلام، ما دام في هذا الوطن نبض من إبداع ينازع من أجل البقاء.
ظل قليل متهالك ومستهلك من مبدعين التنوير يحاولون التشبث أمام موجات الظلام، وتمكنوا من الحفاظ على بصيص أمل في عودة قوتنا الناعمة.
واليوم، جاء افتتاح دورة هذا العام من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ليعيد عندي الأمل في حقيقة قدرتنا على استعادة القوة الناعمة لمصر.
لقد أعلن المهرجان وبوضوح دعم مصر ومؤسسات الفن والثقافة فيها، لفلسطين وشعبها وصموده.
حفل الافتتاح، وما تضمنه من رقصة الدبكة الفلسطينية على الإيقاع الأشهر “أنا دمي فلسطيني”، ثم إطلاق مسابقة للأفلام الفلسطينية للمرة الأولى في تاريخ المهرجان، بعنوان “من المسافة صفر”، بالإضافة لبرنامج خاص بأفلام غزة، وصولاً لفيلم الافتتاح وهو الفيلم الفلسطيني “أحلام عابرة” للمخرج الفلسطيني الكبير “رشيد مشهراوي”.
شئ يدعو للفخر بمواقف مصر وشعبها وفنانيها ومثقفيها من دعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
إنها صورة مضيئة في جدار حالك، وبقعة نور فنية وثقافية، استطاعت أن تغطي على مهرجانات عروض الأزياء، لتقول أن ثمة سينما مختلفة هنا في وجدان فنانين من هذا الوطن، ولازال لدينا ما نقدمه من النور.
يبقى أن نؤمن ونصدق أن قوتنا الناعمة هي قوة غير قابلة للاستنساخ. فلا يستطيع أحد أن يشتري تاريخ أو حضارة بأمواله.
يمكن للأموال أن تصنع مظاهر مدنية وحداثة، ولكنها أبداً لا يمكنها أن تشتري تاريخ وحضارة. ونحن نمتلك هذا التاريخ وتلك الحضارة دون غيرنا.
نحن نمتلك الإرث القادر على استنهاض الهمم وشخذها لخلق المزيد من التنوير.
إطلاق حرية الإبداع وتبني أفكار التنوير، سبيل أوحد لكي تعود القوة الناعمة المصرية، لمكانتها التي تستحقها، وتعود مصر منارة للفن والثقافة والإبداع وقبلة للمبدعين من كل العالم كما عهدناها طوال تاريخها.
هذا هو الطريق الذي من خلاله يعود الفن المصري شعاعا للنور والتنوير بعيدا عن الإسفاف والإظلام.
تشجيع الإبداع ورعاية المبدعين ودعم الثقافة والفن التنويري، واجب على المؤسسات الثقافية، الرسمية والأهلية.
ولكن، لكي يحدث ذلك، علينا أن نمتنع عن أية عقبات تحول دون الإبداع، سواء التكميم أو المصادرة أو الحجر، بالرقابة أو بالتشويه والتخويف أو بالتكفير.
المؤكد أن التكميم والإبداع لا يعيشان سويا.
عبدالعزيز الشناوي
رئيس المكتب السياسي لحزب العدل #حزب_العدل#صوت_الطبقة_المتوسطة#العدل_هو_الأمل