التاريخ المصري حافل بالكثير من الصفحات المضيئة، التي يجب أن تُحكى ليعرف أولادنا وأحفادنا أن أجدادهم صنعوا المجد بدمائهم وكتبوا الانتصار بأرواحهم. لم يعرفوا الخنوع أو الاستسلام. حكايتنا اليوم أعتز بها وبكل فصولها لأنها من المدينة الباسلة السويس، التي أعتز بالإقامة في دروبها وتجولت وعرفت وقابلت البعض من أبطالها، والشرف الكبير يوم أن تقابلت مع الشيخ حافظ سلامة وتحدثنا أن لهذا الوطن رجال لا يموتون، وأن الأرض الطيبة لا تنجب إلا أبطالًا. رحم الله أبطالنا وشهداءنا وكل المجد لهم.
كانت صدمة نكسة 1967 قوية على نفوس جميع المصريين، بل والعرب جميعًا، لكننا نفضنا غبار الهزيمة سريعًا. فكانت معركة رأس العش وعملية الحفار وتدمير المدمرة إيلات رسالة إلى العدو أننا لن نترك شبرًا من أرضنا. وكانت حرب الاستنزاف فرصة لرفع الروح المعنوية لقواتنا، حتى قبلنا بمبادرة روجرز، التي كانت فرصة لإعادة تأهيل الجيش تدريبًا وتسليحًا، والتدريب على خطة المعركة وسط خطة خداع استراتيجي لم تكتشفها أعتى المخابرات في العالم، استعدادًا لمعركة الشرف في السادس من أكتوبر 1973.
كانت مدن قناة السويس الثلاث أكثر المدن المصرية تضررًا، مما أدى بالدولة إلى بدء عملية التهجير لسكانها بعد النكسة، ولم يترك في مدن القناة سوى المواطنين لتشغيل المرافق الأساسية مع تهجير عائلاتهم. وظهر معدن المصريين الكرماء الذين استقبلوا إخوانهم المهاجرين بكل حب وترحاب.
وبدأ العبور العظيم في 6 أكتوبر 73، وانتشرت الأخبار السارة بعبور قواتنا قناة السويس وتحطيم خط بارليف وقهر العدو المتغطرس. وعندما بدأت قواتنا المسلحة عملية تطوير الهجوم لتخفيف الضغط على الجبهة السورية، اكتشفت طائرة استطلاع أمريكية ممرًا يفصل ما بين الجيش الثاني والثالث، فأخطرت إسرائيل إلى تلك الثغرة، وكانت الأزمة التي حاولت إسرائيل بمقتضاها أن تظهر أنها لم تخسر بعد، وصوّرت جولدا مائير وهي في الأدبية بالسويس بعد ذلك.
حاول العدو بفرقتيه الحربيتين احتلال مدينة السويس، واستمر في ضرب المدينة بمدفعيته الثقيلة، وألقت إحدى طائراته قذائفها على كفر أحمد عبده، واستمرت محاولات العدو في قصف المواقع العسكرية في القطاع الريفي، وكلها باءت بالفشل بفضل مهارة دفاعاتنا الجوية. فقد قام العدو بغلق الترعة التي تمد السويس بالمياه، مما اضطر الأهالي إلى إقامة سدود للمحافظة على المياه من الهدر بالصحراء وتخزينها في صهاريج المدينة. ثم كان انقطاع التيار الكهربائي لقطع أسلاك الضغط العالي القادمة من القاهرة يوم 20 أكتوبر، ورغم ذلك تكيف الأهالي مع الوضع واستمروا في الصمود.
استغل العدو قرار وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر وبدأ مهاجمة القطاع الريفي، وصمد الفلاحون برغم خسائرهم البشرية والعينية، وأُجبروا على ترك قراهم، وهرعوا إلى مدينة السويس وكانت أعدادهم كبيرة، في الوقت الذي كان رجال المقاومة ينصبون للعدو الكمائن ويستولون على سلاحهم ويحرقونه حرصًا على عدم رجوعهم إليه مرة أخرى بعد أن فروا مذعورين.
وفي صباح 24 أكتوبر، بدأ العدو في قصف المدينة بشدة، وبدأت بطولات سيظل يذكرها التاريخ لكل من اشترك في تلك المعارك سواء من كان يحمل السلاح أو من يساعد في نقل الجرحى، ومحاولة إعانة الأبطال الذين اعتلوا الأسطح وبدأوا في التعامل مع العدو بدباباته ومدرعاته. واحتل الإسرائيليون قسم الأربعين بمن فيه من أفراد، وكانت المقاومة قادرة على تدمير القسم بمن فيه من العدو، ولكنهم قاموا بعمليات انتحارية بطولية ليحافظوا على الضباط والجنود المصريين الموجودين داخل القسم. واستطاع جندي محبوس أن يقتل أفراد الحراسة على الغرفة التي بها المأمور ورفاقه، والخروج سالمين بعد أن نال البعض الشهادة ممن كانوا يحاولون اقتحام القسم. واستمر الصمود والمقاومة حتى استطاعوا تدمير الثلاثين دبابة التي دخلت السويس عن آخرها وثلاث مدرعات.
وانتقل العدو إلى احتلال شركة السويس لتصنيع البترول وكذلك شركة النصر، ومطالبة المحافظ بتسليم المدينة، مهددين بضرب المدينة كلها. وماطل المحافظ لحين الاجتماع برجال المقاومة والوصول إلى قرار، وكان ردهم لا استسلام، ونجحت المقاومة في تكبيد العدو خسائر فادحة، واستمرت مقاومتهم حتى وصلت قوة الطوارئ الدولية يوم 28 أكتوبر.
ولنا أن نقول بكل فخر إن شعب السويس ضرب أروع الأمثلة في التضحية والفداء، وتحمل ذلك الحصار الذي دام 101 يوم، ومحاولته التقشف كي يحافظ على كمية المياه المخزنة، وكان عون الله حاضرًا فاكتشفوا بئرًا قديمًا بجوار سيدي الغريب ومياهه صالحة للشرب. وقدم كل العاملين في مستشفى السويس العام قصصًا ملحمية في حب الوطن، وكل من بقى في السويس هو قصة بطولة يجب أن تُروى.
فتحية لأبطال المقاومة الشعبية العظام: الشيخ حافظ سلامة، ومصطفى أبو هاشم، وأحمد أبو هاشم، ومحمود عواد، ومحمود طه، وأحمد عطيفي، وعلي سباق، وغريب محمود، وعبدالمنعم خالد، وإبراهيم سليمان، وعبدالمنعم قناوي، وأشرف عبدالدايم، والكابتن غزالي، وحمام، وكل بطل فالقائمة طويلة لا تنتهي.
يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي… استشهد تحتك وتعيشي أنتِ…
حفظ الله الوطن.