الرئيسيةمقالات العدلعبد العزيز الشناويعبدالعزيز الشناوي يكتب: التحول في المزاج الأمريكي.. فوز زُهران ممداني وما وراء...

عبدالعزيز الشناوي يكتب: التحول في المزاج الأمريكي.. فوز زُهران ممداني وما وراء هزيمة الجمهوريين

التحولات الكبرى في التاريخ السياسي الأمريكي غالباً ما تبدأ من لحظة رمزية، لكن فوز زُهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك ليس مجرد لحظة رمزية، بل مؤشر على تحول أعمق في البنية الاجتماعية والسياسية للولايات المتحدة.

المشهد الانتخابي الأخير أظهر أن المزاج الأمريكي يتغير بالفعل، ليس فقط في المدن الكبرى، بل أيضاً في ولايات كانت لعقود معاقل للجمهوريين، مثل تكساس وآيوا وفيرجينيا، وامتدت الخسارة لولايات محورية مثل فلوريدا وأوهايو وبنسلفانيا.

مما يستدعي التساؤل، ماذا يحدث في أمريكا؟ وهل فوز ممداني مجرد حادثة فردية، أم انعكاس لتحول هيكلي في عقل الناخب الأمريكي واتجاهاته؟

زُهران ممداني يمثل جيل جديد من القيادات السياسية في أمريكا. جيل يجمع بين خلفية مهاجرة “من أصول هندية ومولود في أوغندا”، وبين شباب ينتمي لتيار ديمقراطي اجتماعي، يرى في السياسة أداة لإصلاح اقتصادي وعدالة اجتماعية حقيقية، وليست مجرد إدارة مصالح وقوى أو توازنات حزبية.

وجود ممداني على رأس مدينة بحجم نيويورك يؤكد أن الناخب الأمريكي بات يبحث عن ممثلين قريبين من واقعه، ليسوا من الطبقة السياسية القديمة التقليدية أو شبكات المال والإعلام التي كانت تحتكر المشهد لعقود.

الرمزية هنا ليست فقط في الدين أو الأصل أو السن، بل في تحول نموذج القيادة نفسه، من “النخبة التقليدية” إلى “القائد الشعبي” الذي يفكر في تكلفة السكن، والرعاية الصحية، والعدالة المناخية، قبل أية حسابات حزبية ضيقة.

ثم إن خسارة الحزب الجمهوري في ولايات كانت دايماً جزء من هويته الانتخابية ليست صدفة أيضاً، لكنها نتيجة تراكم طويل من التغيرات داخل المجتمع الأمريكي، ونتيجة مباشرة لما يمثله دونالد ترامب وتياره اليميني المحافظ من انحراف نحو خطاب القوة والتطرف القومي.

التحولات الديموغرافية مثل “زيادة المهاجرين، وتصاعد الطبقة المتوسطة متعددة الأعراق، وتوسع الكتلة التصويتية الشبابية”، جعلت من الخطاب الجمهوري، المعتمد على “أمريكا البيضاء المحافظة”، يبدو قديم ومنفصل عن الواقع الداخلي وعن المتغيرات العالمية.

في المقابل، فإن التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي استطاع أن يقدم خطاب اقتصادي أكتر جرأة، يركز على العدالة الضريبية، ورفع الحد الأدنى للأجور، والتصدي لجشع واحتكار الشركات الكبرى، بما يمثل انحيازاً اجتماعياً بات أكثر ملائمة لهذا العصر في أمريكا وفي العالم أجمع.

كل هذا جعل الناخبين في ولايات كانت محسومة للجمهوريين يعيدوا التفكير في اختياراتهم، خصوصاً مع تراجع الثقة في المؤسسات التقليدية وفي النخب السياسية والإعلامية التي انبطحت تماماً أمام بزوغ ديكتاتورية ترامب وسيطرته.

ويأتي التساؤل الأهم، هل ما يحدث في أمريكا يؤثر خارجها؟

إن التحول في الداخل الأمريكي دايماً ما يكون له صدى عالمي. فالتيار اللي بيمثله زُهران ممداني، وهو تيار الوسط في الطيف السياسي، بيمينه”الليبرالي الاجتماعي” وباليسار منه “الاشتراكي الديمقراطي”، جاء ليقدم رؤية مختلفة للسياسة الخارجية الأمريكية.

رؤية أقل اعتماداً على التدخلات العسكرية، وأكتر انحيازاً للقانون الدولي، رؤية تحاول أن تستعيد صورة أمريكا كقوة دبلوماسية حامية لحقوق الإنسان وليست كـ”شرطي” للعالم، يستخدم القوة متى شاء دون أن يلتزم بقانون أو ينتصر لحقوق.

في القلب من هذه الرؤية المختلفة، تظهر القضية الفلسطينية كاختبار حقيقي لهذا التحول. لقد رأينا “ممداني” المعروف بموقفه الواضح ضد جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وهو يكسر الخط الأحمر الذي استمر لعقود في السياسة الأمريكية من دعم مطلق للاحتلال مهما ارتكب من جرائم.

وفي حالة استمرار هذا النهج واتساعه داخل الحزب الديمقراطي، يمكننا أن نشهد خطاب أمريكي جديد، ليس بالضرورة “مؤيداً للفلسطينيين”، لكنه على الأقل أكثر توازناً وإنصافاً في فهم الصراع ومعالجة جذوره. وربما نجد، في المستقبل، إدارة أمريكية تؤيد حل الدولتين وتنتصر للحق الفلسطيني.

إن فوز زُهران ممداني ليس مجرد مكسب انتخابي لشخص أو حزب، لكنه علامة على بداية مرحلة جديدة في السياسة الأمريكية، مرحلة تمتزج فيها الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية بالوعي العالمي، وتكسر احتكار النخبة البيضاء المحافظة للمشهد السياسي الأمريكي، وتشجع أنصار تيارات الوسط عبر العالم في كسب مساحات أكبر.

ولكن، هذا التحول لازال في بدايته، إذا استمر بنفس الوتيرة، فإن أمريكا التي نعرفها منذ الحرب الباردة ليست هي نفس أمريكا التي سوف نراها مستقبلاً. كما أن العالم الذي ينحاز للقوة والغشم الآن وتضيع فيه حقوق الضعفاء، ليس هو العالم الذي يتشكل.

قد لا يتغير وجه أمريكا بين ليلة وضحاها، ولكن بذور هذا التغيير قد زُرعت بالفعل، وربما يكون زُهران ممداني أول ثمارها السياسية الواضحة.

عبد العزيز الشناوي

رئيس المكتب السياسي لحزب العدل #حزب_العدل#صوت_الطبقة_المتوسطة#العدل_هو_الأمل

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة