قررت الأمم المتحدة الاحتفال بيوم حرية الصحافة في الثالث من مايو من كل عام، بمناسبة عقد مؤتمر ويندهوك 1991 الذي نادى بصحافة حرّة ومستقلّة وتعدديّة، ولكن المناسبات لا تصنع المعاني، فحرية الصحافة أقدم من الصحافة، لكن صورها كانت محتلفة، تمثلت في الجذور الأولى لتداول المعلومات بشفافية وحرية بين البشر، وحق الإنسان في معرفة الحقيقة كاملة.
وشأنها شأن كل ابتكارات البشر، تطورت الصحافة من مجرد الإعلان والإخبار إلى صناعة كاملة لها مقومات وركائز، وتواجه صعوبات وتحديات، وتحتاج دائما للتطور والمواكبة، وإذ يحتفل العالم بالسنة الثانية والثلاثين لحرية الصحافة، تحتفل مصر بالسنة الخامسة والتسعين بعد المائة على صدور أول صحيفة مصرية عربية منتظمة وهي “الوقائع المصرية”، ولا غريب في ذلك فقد جاءت مصر ثم جاء تاريخ كل شيء.
وبالتزامن مع اليوم العالمي لحرية الصحافة، تتنسم مصر نسيما لا يقل أهمية وعظمة، وهو انعقاد الجلسة الأولى للحوار الوطني، بعد فترة عصيبة من الاضطرابات والحرب على الإرهاب والإصلاح الاقتصادي وتصحيح مسارات الدولة ومحو آثار عقود من تكريس التراجع الممنهج في كل المجالات، ولم تكن الصحافة المصرية لتنجو من الانهيار، فقد أصابها بعض ما أصاب جميع مؤسسات الدولة، لكنها تميزت باثنين من المقومات الأساسية التي لم يتمكن أحد أن يباريها فيهما: الكفاءات الفردية، ومحورية الدور المصري إقليميا وعالميا.
هذا التزامن المقصود بانطلاق الحوار الوطني في يوم حرية الصحافة، يثقب في جدار التحديات ثغرة، ليمر النور إلى أوضاع الصحافة والصحفيين مرة، هذا النور ليس مجرد استحقاق مجاني للكذب والتدليس، ولا يستغله البعض منبرا لتصفية الحسابات، لكنه مسؤولية لصناعة حرية الصحافة بمعطيات عصرية وبصيغة مصرية وبمسؤولية مجتمعية ووعي يجمع بين امتلاك الأدوات المهنية وإدراك اللحظة التاريخية الفارقة.
لا يمكن أن تصل إلى حرية الصحافة في المجتمع المصري، قبل أن تمر على صحافة الحرية، وهي الصحافة المسؤولة التي تراعي الحريات، تحترم حق الإنسان في الحياة وتعلي من قدره، لا تحرض على العنف، لا تزكي العصبية المنتنة بين المتنافسين أو جماهيرهم، لا تعتبر الأمور الشخصية مادة خصبة للجدل، بل هي خطوط حمراء، تناقش قضايا المجتمع دون الطعن في القيم والثوابت، وترتيب مسارات النقاش وفق مبدأ “أولى لك فأولى”.
وإذ يطلق حزب العدل مبادرة “صحافة الحرية أول طريق لحرية الصحافة”، يقدر ويثمن كل تضحيات الصحفيين المصريين منذ مطلع القرن الماضي وكل مواقفهم المشهودة، ويقدم له تحية تقدير وإعزاز، ويهيب بكل من يمتهن الصحافة أن يتمسك يقيمها التي لا يبليها الزمن، وهي الشجاعة والمسؤولية والانحياز لمصلحة الوطن أولا ثم المواطن، وتجنيد القلم في خدمة الوطن وقت الحرب وفي خدمة التنمية وقت السلم.
كما تتضمن المبادرة الدعوة للعمل الجاد بين كل أرباب المهنة وأساطينها، وكل محترفي الصناعة، على توفير الاستقلال المادي للعمل الصحفي، وفتح آفاق جديدة لدعم الصحفيين لتوصيل رسالتهم في عصر السوشيال ميديا والذكاء الاصطناعي، وابتكار مناهج ومسارات وآليات تربط المقابل المادي بالمحتوى الجاد والتفاعل الواسع فقط، وتقليص حجم التوجيه، والتخلي عن المربع القديم “رأس المال، الرأي العام، المهنية، السلطة” الذي ظلت الصحافة المصرية حبيسة له قرابة مائة عام، والانتقال إلى منطقة أكثر رحابة، تشرك القارئ في التمويل مباشرة، واتخاذ قرار النشر، وتقييم الأفكار والأدوار، ولا ينتظر أن تفرض عليه.
ولا ينسى في هذا السياق الاحتفالي التذكيري، أن يجدد رفضه التام لمحاسبة أصحاب الرأي بسبب آرائهم، مادامت لا تحرض على العنف أو تهدد أمن الوطن، ويدعو بكل ما له من مواقف وطنية ورصيد شعبي ومستقبل منذور لخدمة الوطن والمواطنين، إلى الإفراج عن كل الصحفيين المحبوسين احتياطيا أو على ذمة قضايا رأي، ما لم تصب أياديهم أو أقلامهم دما حراما أو حرما وطنيا مقدسا.
حزب العدل
القاهرة
3 مايو 2023