(نظرة مدققة على أزمة الكهرباء في مصر)
بعد اختفاء لأكثر من 8 سنوات، ورغم تأكيد المسئولين أن أزمة انقطاع الكهرباء في مصر انتهت بلا رجعة إلا أنها عادت وبقوة لتُثير حالة من الغضب والاستياء لدى عموم المواطنين، حيث تجاوزت ساعات فصل التيار في بعض المناطق والقرى أكثر من 6 ساعات متواصلة بحسب بعض التقارير، خاصة في ظل معاناتهم من ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة في الفترة الراهنة، والتي استقرت ذروتها فوق ال 40 درجة مئوية بشكل مستمر.
إن هذه الأزمة المفاجئة المستمرة أثارت تساؤلات عديدة عن الأسباب لدي الشعب المصري، الذي طالما تفاخرت حكومته بقضائها على أزمات الكهرباء منذ سنين طويلة، بعد إنشائها لعدد كبير من محطات الكهرباء، وزيادة إنتاج مصر من الغاز الطبيعي الذي يعتبر الوقود الأهم لتشغيل هذه المحطات، وتحقيقها فائض إنتاج سنوي كبير تسعى لتصديره، سواء من الغاز أو الكهرباء.
ورغم منطقية التساؤلات إلا أن تصريحات الحكومة لم تستطع الإجابة عليها بشكل واضح، وبرغم تعدد الأسباب التي ذكرت على لسان وزير الكهرباء ورئيس الوزراء، إلا أنها بدت متضاربة ويسهل تفنيدها من قبل المهتمين بقطاع الطاقة في مصر.
ولذا توجه النائب عبد المنعم إمام – أمين سر لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب ورئيس حزب العدل- بسؤال برلماني موجه إلى وزير الكهرباء بشأن ” أسباب الانقطاعات الكهربائية المتكررة في كل أنحاء الجمهورية، مؤكداً بأنها باتت طقساً يومياً يمتد لساعات في بعض المناطق الحضرية وليست النائية، ولاسيما في المناطق الصناعية الكبرى أمثال المحلة الكبرى ودمياط والعاشر من رمضان، التي تقوم في الأساس على الطاقة، وتدور آلاتها وماكيناتها بالكهرباء، كما يؤدي إلى انقطاع المياة في المصانع والمحلات التجارية، نظراً لاستخدام معظم المصانع (مواتير) مياه بالكهرباء، مشيراً إلى أن ذلك يتسبب في تلف المنتجات الغذائية المجمدة، ويؤثر على المصنعين والتجار، إن هذه الساعات التي تنقطع فيها الكهرباء تتسبب في خسائر هائلة من شأنها التأثير على حالة الاقتصاد المصري الذى لا يمر حاليا بأفضل حالاته”.
■ بداية الأزمة (تخفيف أحمال) ■
أرجعت وزارة الكهرباء المصرية الأزمة إلى عدة أسباب من بينها، قرار الجهات المسئولة عن مرافق الكهرباء بتخفيف الأحمال عن المحطات الكبرى التي تعاني زيادة في معدلات التشغيل. علاوة على ذلك، دخول عدد كبير من المحطات الكهربائية للصيانة في ظل الطلب المرتفع على الكهرباء خلال فصل الصيف.
حيث أعلن الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء قائلاً: “إن قطع الكهرباء يأتي لتخفيف الأحمال على الشبكة القومية فضلا عن نقص الغاز الطبيعي المشغل لمحطات إنتاج الكهرباء فبالتالي وجب الترشيد بتوزيع قطع التيار على عموم الجمهورية”.
كما صرح وزير الكهرباء المصري محمد شاكر في تصريحات صحافية بأن “أزمة انقطاع التيار الحالية هي أزمة موقتة بسبب نقص الوقود ولا يمكن مقارنتها بأزمة الانقطاعات التي كانت تعانيها مصر قبل عام 2014”.
إذا وفقا لما طرحته الحكومة فإن:-
– الأزمة مؤقتة.
– ارتفاع درجات الحرارة فوق المعدلات الطبيعية أدى لدخول بعض المحطات في الصيانة.
– يوجد نقص في الوقود المستخدم في محطات الإنتاج.
ولكن تصريحات الحكومة أثارت أسأله أكثر من الإجابات.
فإذا كان الاستهلاك قدر ارتفع كثيرا مع الموجة الحارة، فوفقا لتصريحات المسؤولين مصر تحقق فائض كبير جدا من إنتاج الكهرباء، حيث أن ذروة الأحمال على الشبكة الوطنية وصلت إلى 34.6 ألف ميجاواط، وهذا رقم كبير، لكن الإنتاج سجل فائضًا بنحو 10 آلاف ميجاواط، فما المشكلة؟
وإذا كانت المشكلة من نقص إمدادات الغاز، فمصر لديها فائض في إنتاج الغاز وتصدره، فكيف يكون هناك نقص في الوقود؟ أم أن الدولة في ظل نقص الدولار قد قررت تفضيل الحصيلة الدولارية الناتجة عن التصدير على توفير الكهرباء اللازم لمعيشة المواطنين وتشغيل أعمالهم؟!
ثم إن ارتفاع درجات الحرارة، على الرغم من أنه فوق المعدلات المعتادة، إلا أن الصيف في مصر عادة ما يحتوي على أيام حارة مثل الموجة الحالية وربما تتعداها، ولم تحدث مثل هذه المشكلات على نطاق واسع من قبل، فما الفارق؟ خاصة وأن الدولة قد استثمرت مليارات كثيرة في بنية الكهرباء التحتية خلال السنوات الماضية.
كما أن الموجة الحارة الحالية، لم تكن مفاجئة على الإطلاق، بل توقعها الخبراء منذ فترة، وكان على الحكومة أن تستعد لها بشكل مبكر، أم أن الحكومة تعمل بنظام الجزر المنعزلة؟
■ استمرار الأزمة وظهور الشائعات ■
وفقا للتصريحات الحكومية، توقع المواطنون أن تستغرق الأزمة عدة أيام، حتى تعود معدلات ضخ الغاز إلى سابق عهدها داخل خطوط الإمداد، لتمكن محطات الإنتاج من العمل بكامل طاقتها، وبالتالي تغطية الاستهلاك المحلي، ولكن هذا لم يحدث!
وبدأت عدة شائعات في الظهور مثل:-
– أن الحكومة قد قررت التضحية باحتياجات المواطنين في مقابل تصدير الغاز والاستفادة من عائداته الدولارية، وهو ما أضطر الحكومة للرد على هذه الشائعة بأن الحكومة متوقفة عن التصدير منذ شهر مايو، ولن تستأنف التصدير طوال أشهر الصيف لارتفاع الاستهلاك المحلي.
– أن الحكومة تنوى رفع أسعار استهلاك الكهرباء، وأن الأزمة متعمدة للتمهيد لذلك، وهو ما تم نفيه أيضا، خاصة أن الدولة قد توقفت عن دعم الكهرباء من موازناتها العامة منذ عام 2019، وتعتمد ما يطلق عليه الدعم التبادلي بحيث تدعم الفئات الأكثر استهلاكا الفئات الأقل استهلاكا عن طريق فرق الأسعار بين شرائح الاستهلاك المختلفة.
– وجود مشكلات تقنية بحقل ظهر (يمثل 40% من إنتاج مصر من الغاز الطبيعي) تتعلق بتنقية المياة في الحقل، وهو ما يقلل معدلات الإنتاج الكلي، وهو ما خرجت الحكومة لتنفيه أيضا، مؤكدة أنه لا توجد مشكلات تقنية في الحقل، وأن معدلات إنتاج حقل ظهر كما هي في حدود ال 2.3 مليار قدم مكعب غاز في اليوم.
وعلى الرغم من تفنيد هذه الشائعات والرد الرسمي عليها، إلا أنه مع استمرار الأزمة، والتصريح بأنها ممتدة لأوائل شهر أغسطس، استمر المواطنون الذين تأثروا بشدة بخطة تخفيف الأحمال في التساؤل عن الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة.
■ نظرة على إنتاج واستهلاك الكهرباء في مصر خلال السنوات الأخيرة ■
قبل أن نضع إجابة منطقية للأسباب الحقيقية التي تسببت في هذه الأزمة دعونا نضع بين يديكم ملخص لحالة قطاع الكهرباء في مصرفي السنوات الماضية:-
– في عام 2012: كانت القدرة الإنتاجية لمحطات الكهرباء 23.8 ألف ميجاوات، والحد الأقصى للاستهلاك كان حوالي 25.7 ميجاوات (يوجد عجز مقداره 1.9 ألف ميجاوات).
– تم توجيه الاستثمارات لقطاع الكهرباء، حيث وقعت مصر اتفاقا مع شركة سيمنز الألمانية لإنشاء 3 محطات جديدة باستثمارات بلغت 6 مليار يورو (من بينها تمويلات بحوالي 4.1 مليار يورو من بنوك أوربية) تم افتتاحها تباعا، وفى عام 2013: أصبح لدينا فائض في الإنتاج حوالي 2.1 ألف ميجاوات.
– ومنذ عام 2014 والفائض في حالة تزايد إلى أن أصبح في عام 2020 حوالي 26.8 ألف ميجاوات (حيث بلغت قدرة المحطات 58.8 ألف ميجاوات والحد الأقصى للاستهلاك الذى نحتاجه لم يتجاوز32 ألف ميجاوات)، مما دفع بمصر 44 مركزاً للأمام في مؤشر جودة إمدادات الكهرباء بتقرير التنافسية العالمية في عام 2019.
– في منتصف عام 2022: وصل إنتاج مصر من الكهرباء إلى 63.2 ألف ميجاوات، منهم 3.3 ألف ميجاوات من الطاقة المتجددة.
– من المستهدف أن يتضاعف إنتاج مصر من الكهرباء خلال عام 2026، كما أن محطة الضبعة النووية من المقرر أن تبدأ إنتاجها في نفس العام بمعدل حوالي 4.8 ألف ميجاوات، لتصل قدرة محطات توليد الكهرباء المصرية مجتمعة حوالي 69 ألف ميجاوات، في حين أن الذي نحتاجه وفقا لمعدلات استهلاك 2022 حوالي 33 ألف ميجاوات فقط.
أي أن خلاصة الوضع الحالي، مصر بعد إنفاقها نصف تريليون جنيه منذ عام 2012 وحتى الان، وبدون انتظار لافتتاح محطة الضبعة النووية، يمكنها إنتاج كهرباء ضعف متوسط احتياجاتها السنوية.
■ توسع الحكومة المصرية في خطة تخفيف الأحمال ■
بينما ينتظر المواطنون انتهاء الأزمة أو تقليل فترات تخفيف الأعمال إيذانا بقرب انتهائها، خرج رئيس الوزراء بمجموعة جديدة من الإجراءات، لترشيد الاستهلاك في الإنارة العامة لكل الأماكن العامة (الشوارع، المباني الحكومية، المباني الخدمية)، وكذلك مخاطبة وزارة الشباب والرياضة بأن كل المباريات تلعب في الوقت قبل المغرب وتنتهي المباراة مع حلول المغرب مباشرة لتقليل استهلاك الكهرباء في المنشآت الرياضية، وإعطاء الفرصة لموظفي الدولة للعمل من المنزل أيام الأحد، إذا ما كانت أعمالهم بعيدا عن التواصل مع الجماهير، كما أعلن عن استيراد شحنات إضافية من المازوت بقيمة من 250 ل 300 مليون دولار، ومقررا في الوقت ذاته استمرار الأزمة لأخر شهر أغسطس.
وهنا برزت تساؤلات جديدة منها:
– لماذا تم تمديد مدة تخفيف الأحمال، وهل يعنى ذلك تفاقم الأزمة، أم أنها كانت كبيرة منذ البداية، ولم تشأ الحكومة إطلاع المواطنين على تفاصيلها لأسباب سياسية؟
– لماذا يتم استيراد كميات إضافية من المازوت في ضوء توافر الغاز الطبيعي، رغم ارتفاع سعر الأول، والانخفاض النسبي لسعر الثاني؟
وهل هذا يعني أن هناك نقصا في إمدادات الغاز لا يمكن تعويضه بزيادة ضخه في أنابيب الغاز الواصلة للمحطات كما صرح وزير الكهرباء من قبل؟ وكيف حدث هذا النقص إن وجد؟
■ الحقيقة التي لا تريد الحكومة التصريح بها ■
أمام كل هذا التساؤلات المشروعة، وبعد فحص العديد من المصادر، تبين لنا أنه استنادا لإحدى الشركات التابعة لشركة (فيتش العالمية) المتخصصة في التقييم المالي للشركات وحكومات الدول، أن حقل ظهر يعاني من مشاكل تقنية منذ أغسطس الماضي، وأنه وإن كان صحيحا أن انتاجه اليومي يزيد عن 23 مليار متر مكعب غاز/ اليوم كما ذكرت الحكومة، إلا أنها لم تذكر أنه كان ينتج 27 مليار متر مكعب غاز/ اليوم قيل ذلك، بل كان من المستهدف أن يصل ل 32 مليار متر مكعب غاز/ اليوم في مطلع هذا العام، وهذا يعنى نقصا بنسبة 28% عن المستهدف، وهذا على مدار 9 شهور ماضية، ونظرا لأهمية هذا الحقل ونسبته الكبيرة في امدادات الغاز الطبيعي للداخل المصري، فإنه حدث نقص عام في إمداد الغاز لمحطات توليد الكهرباء، وهو ما أدى لتوقفات جزئية في انتاج هذه المحطات، وهو ما قلل إجمالي قدرة الإنتاج المصرية من الكهرباء، وهو ما أنكشف عند زيادة الاستهلاك الموسمي صيفا، بسبب حرارة الجو وتشغيل المكيفات.
أما فيما يخص المازوت، فعقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ومنع روسيا للغاز عن أوربا، فإن أسعار الغاز الطبيعي قد ارتفعت في مقابل المازوت، وهو ما دفع بالحكومة المصرية لاستغلال الفرصة بزيادة كميات الغاز المعدة للتصدير، في مقابل التوسع في استيراد المازوت، حيث تعمل معظم محطات توليد الكهرباء بكلا النوعين من الوقود، مع اختلافات في كفاءة التشغيل والاستعدادات عند التغيير بينهما.
ولكن بعد انتهاء الشتاء، قلت أسعار الغاز الطبيعي مرة أخرى وارتفعت أسعار المازوت، ومن الواضح أن أزمة الدولار التي تعاني منها مصر الان قد ألقت بظلالها على عدم القدرة على شراء كميات إضافية من المازوت لتعوض بها نقص امدادات الغاز الطبيعي عن المستهدف في أشهر الصيف ذات الاستهلاك المحلي العالي للكهرباء.
هناك عوامل أخرى تساهم في زيادة معدلات استهلاك مصر من الكهرباء، فمصر دولة يزداد فيها السكان كل عام بمقدار 2 ونصف مليون نسمة، وبالتالي تزداد أنشطتهم، وبالتالي استهلاكهم للكهرباء، صيفا وشتاء، كما أن الدولة تتبنى خطط توسعية كبيرة في المجال الصناعي كثيف الاستهلاك للطاقة، سواء قس صورة كهرباء أو في صورة غاز طبيعي، فالغاز الطبيعي يعتبر مدخل من مدخلات الإنتاج في صناعات هامة كالبتروكيماويات والأسمدة والأسمنت وغيرها، وبالتالي فمعدل الاستهلاك السنوي من الغاز الطبيعي غير ثابت ويزداد كل عام.
■ ما رأيك في إدارة الحكومة للأزمة؟ ■
يتضح من هذه المعلومات أن الحكومة كانت تعلم بفرص حدوث هذه الأزمة منذ 9 أشهر كاملة، ومن الواضح أن الأزمة غير مؤقتة، بل ترتبط ارتباط واضح بقدرات مصر في انتاج الغاز وقدراتها في توفير الدولار اللازم لشراء المازوت أو الغاز (من إسرائيل مثلا)، كما أنه يتضح أن الحكومة لم تشأ أن تطلع المواطنين على حقيقة الأزمة بشكل كامل، بل استهلكت تبريرات واهية كثيرة أثناء الأزمة، مما أظهر تخبطا واضحا وتعارضا جليا بين تصريحات المسؤولين وتبريراتهم المتكررة.
فبينما نجد وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك: “إن تأمين مصادر الطاقة لتدفئة منازل الألمان مسألة تتعلق بالأمن القومي”، نجد الحكومة المصرية الرشيدة تعرض المصريين للإجهاد الحراري وانقطاع المياة والكهرباء يوميا دون أدنى درجة من المسؤولية أو الوعي.
المصريون الذين يتواجد بينهم ٦ مليون مُسن، و٨ مليون طفل تحت الأربع سنوات، وما يزيد عن ٩ مليون مواطن لديهم مشاكل في الجهاز التنفسي.
إن الحكومة التي لا تعرف متى وكيف ينتهي “تخفيف الأحمال” تصبح هي نفسها “حملا زائدا” على المواطنين.