ما كتبتُ هذا المقال لأدافع عن مِلْكٍ ضاع، ولا لأصرخ في وجه قانونٍ جائر، وإنما لأكتب عن الإنسان حين يُنتزع من بيته، ويُجَرّ إلى المجهول بلا وداع… لأكتب عن ذاك الأمان الذي يتهاوى فجأةً تحت سنّ قلمٍ باردٍ في لجنةٍ برلمانية، لا تعرف من بيوت الناس إلا ما يُرسم على الورق.
البيت، أيها السادة، ليس جدرانًا تُطلّ على الشارع، بل حكاية عمر… قطعة من الروح… مكانٌ لا تُغلق فيه الأبواب، بل تُفتَح فيه القلوب. فكيف بمن عاش فيه خمسين عامًا، ثم يُقال له: اخرُج كما دخلت، لا شيء لك هنا سوى الذكرى!
أنا – واللهِ – لست ضد المالك، ولا ضد المستأجر، بل كنت من الذين نالهم الظلم من قانون الإيجار القديم، فقد ورثنا عن جدٍّ عقارًا في كفر عبده، أرقى مناطق الإسكندرية وأجملها. فإذا هو ملكٌ بلا سلطة، وأبوابٌ مفتوحة لغيرنا، وأيدينا لا تملك فيه غير الحسرة. شققٌ تُؤجَّر بسبعين قرشًا، لا تكفي لشراء زجاجة ماء، في قلب حيّ تُقَدَّر فيه العقارات بالملايين!
ثم جاءنا أحد المقاولين ذات يوم، يقترح هدم العقار وإعادة بنائه بنظام المشاركة. فرحنا، وقلنا: “آن للعدل أن يُولد!” لكن لم يكن القرار بأيدينا، بل في يد من يسكنون الشقق. جلسوا إلى مائدة النقاش لا كضيوف، بل كأرباب العقار!
اشترط كل واحد منهم أن يحصل على شقتين في المبنى الجديد، بينما قُسِم على الورثة – أبناء المالك الأصلي – شقة يتيمة لكل واحد منهم!
بالله عليكم، أهذا عدل؟! أن تُعامَل كأنك دخيلٌ على ما ورثته، ويُكتَب اسمك في صك الملكية وتُسحَب من يدك مفاتيح البيت!
ومع كل هذا، لا أُطالب الآن بإزالة الناس من بيوتهم كما تُجتث الأشجار اليابسة. لأنني أعلم – كما يعلم الله – أن بين ساكني تلك البيوت من لا يملك غيرها، ومن ورث الفقر كما ورثنا الظلم… ومِنهم أرامل، وعجائز، وأصحاب معاشات، لا يسندهم في الحياة إلا جدار الذكرى.
لكن القانون الجديد لم يُفرّق… لم يُميّز… قرّر أن يجعل الخمس سنوات في كفة ميزان واحدة، ثم يرفَعها، فيسقط الناس كما تسقط أوراق الشجر في الخريف.
إخلاءٌ جماعي، في يومٍ معلوم!
وكأن البيوت لا تسكنها أرواح، بل تواريخ انتهاء صلاحية.
رأيت – كما رأى غيري – مقاطع مصورة لمظاهرات بعض المستأجرين، وهم يصرخون: “لن نغادر بيوتنا إلا على جثثنا!”
لم يكن هتافهم صخبًا، بل بكاءً مدفونًا في الصوت… صوت من اقترب من حافة هاويةٍ لم يصنعها، بل دُفع إليها دفعًا.
ويا ويلنا إن لم نفقه حجم ما يحدث!
نحن لا نواجه أزمة قانون… بل نُدَاري نارَ فتنةٍ كامنةٍ في صدور الناس، لو اشتعلت، لأكلت ما تبقّى من السكينة.
إنها الفتنة التي لم نعرفها في مصر قط:
لسنا أهل مذهب، ولا طوائف، ولا عقائد متناحرة… فكيف نقبل أن تنشأ بيننا اليوم فتنةٌ أغرب؟
فتنة “المالك والمستأجر”!
وكأننا أمام مذهبَين جديدَين، كلٌ منهما يزعم الحق المطلق، ويحشد جيوشه عند باب كل بيت.
هل أصبح السُلّم في العمارة خط تماس؟
أصار الجارُ خصمًا، والحياة المشتركة ميدان خصومةٍ لا تنتهي؟
هل نرى في يومٍ ما لافتاتٍ على الأبواب تقول: “أهل الدور الرابع من الطائفة المالكية، وأهل الدور الأرضي من الطائفة المستأجرية”؟
يا سادة، لا تُشعلوا بين الناس فتنةً لا يطفئها إلا الله.
هذه ليست أزمة ملكية، بل كارثة اجتماعية تُهدد أول جدار أمان في مصر: أننا بلا طوائف ولا صراعات مذهبية.
الحل لا يحتاج معجزة… بل إرادة عادلة.
تحريرٌ تدريجيٌّ للعقود، وتمييزٌ بين من يحتاج السكن حقًا، ومن استغل سكناه طول عقود.
لدينا من أدوات الدولة ما يكشف حال كل مواطن:
من الحسابات البنكية، إلى السيارات، إلى الممتلكات الأخرى.
فلنستخدمها كما استخدمناها في دعم الخبز والتموين.
إن العدالة ليست أن نُرضي طرفًا ونُهلك الآخر، بل أن نسير على خيطٍ رفيع، اسمه: الإنصاف.
البيوت لا تُطرَد منها الأرواح كما تُخرج القمامة من النوافذ.
والقانون الذي لا يعرف الرحمة، يُنبت القسوة في القلوب، ويغرس الخوف في الأرض.
إن الوطن لا ينهار حين يُحتل… بل حين يشعر ابنُه أن قانون بلاده لا يحميه، بل يُقصيه #حزب_العدل#صوت_الطبقة_المتوسطة#العدل_هو_الأمل
