الرئيسيةمقالات العدلعبد العزيز الشناويعبد العزيز الشناوي يكتب: الإسكندرية .. المدينة التي ضيّعت روحها

عبد العزيز الشناوي يكتب: الإسكندرية .. المدينة التي ضيّعت روحها

الإسكندرية لم تكن يوماً مجرد مدينة ساحلية أو مصيف موسمي يهرب إليه الناس من حرارة القاهرة والمدن المجاورة. الإسكندرية كانت، وما زالت في الوجدان، رمزاً لحضارة ممتدة آلاف السنين، مدينة كوزموبوليتان عالمية جمعت بين ثقافات وأديان وأعراق مختلفة عبر العصور في نسيج واحد فريد من نوعه. من الحضارة اليونانية والرومانية إلى العربية، ومن اليهودية والمسيحية والأرمينية، وصولاً إلى الإسلامية، كان كل ذلك ممزوجاً بروح مصرية قديمة عريقة امتصت كل هذا التنوع فخرجت روح سكندرية خالصة.

كانت الإسكندرية بوتقة للتنوع والتسامح والانفتاح والتنوير، ومنارة للعلم والفكر، حيث قامت هنا مكتبة الإسكندرية القديمة، أحد أعظم الصروح الثقافية في التاريخ. وهنا عاشت العالمة الفيلسوفة “هيباتيا”، التي اغتيلت دفاعاً عن العقل الحر والمعرفة، لتصبح رمزاً للتنوير في مواجهة التعصب.

لم تقتصر الإسكندرية على ماضيها البعيد، بل عاشت عصراً ذهبياً في القرنين التاسع عشر والعشرين، عندما صارت مركزاً للحياة الثقافية والفنية في مصر والشرق الأوسط. فهنا وُلد الشعر الحديث مع “كفافيس”، ومنها استلهم “لورانس داريل” “رباعية الإسكندرية” التي نقلت صورة المدينة للعالم. وإليها جاء “يوسف شاهين” ليصنع من الإسكندرية مسرحاً لأفلامه الكبرى، بدءاً من “إسكندرية… ليه؟”، كأنه يكتب سيرة المدينة وسيرته معاً، مروراً بثلاثيته الشهيرة “إسكندرية كمان وكمان – حدوتة مصرية – إسكندرية نيويورك”، ليجعل من الإسكندرية بطلة وشخصية رئيسية تعكس تحولات مصر كلها. حتى “نجيب محفوظ”، القادم من القاهرة، لم يستطع أن يكتب عن مصر دون أن يجعل الإسكندرية أيقونة لبعض رواياته مثل “ميرامار”.

الطابع الحضاري للإسكندرية كان دائماً مميزاً. معمارها الإيطالي واليوناني، والكورنيش الساحر الممتد بطول المدينة من أقصاها إلى أقصاها، والعمارات ذات الشرفات الواسعة، والبوابات المزخرفة بإبداع. في شوارع الإسكندرية كنت تسمع الإيطالية واليونانية والفرنسية جنباً إلى جنب مع اللغة العربية. وفي مقاهيها وبيوت ثقافتها ازدهرت حياة اجتماعية وثقافية غنية ومتعددة لا مثيل لها. ولا ننسى أنه بعد أن شهدت باريس أول عرض سينمائي في العالم على يد “الأخوين لوميير” في ديسمبر 1895، كانت الإسكندرية واحدة من أوائل مدن العالم التي عرفت هذا الفن الجديد، حين أعاد “الأخوين لوميير” تقديم العرض السينمائي في أحد مقاهيها عام 1896، لتصبح البوابة الأولى التي دخلت منها السينما إلى مصر والشرق الأوسط.

لكن الصورة اليوم قاتمة. الإهمال العمراني، والاعتداء المستمر على المباني التراثية، والتخطيط العشوائي، وغياب أي رؤية طويلة المدى، كل ذلك جعل الإسكندرية تفقد الكثير من ملامحها. الهوية التي صاغتها قرون من التعدد تآكلت. حلت محل الفيلات الإيطالية أبراج أسمنتية بلا روح. الكورنيش الذي كان لوحة فنية تغنى به الشعراء واستلهم منه كُتاب الدراما والسينما أعمالهم أصبح محاصراً بمباني النوادي والكافيهات التي تحجب رؤية البحر وكأنها مدينة بلا ساحل، بل وتشوهت ملامح طريق الكورنيش بكباري أقيمت بلا ضرورة ولا فائدة، وفي شوراعها وأحيائها الداخلية تطغى العشوائية والإهمال على كل شئ. المدينة صارت زحاماً خانقاً وبنية تحتية متآكلة وعشوائية مسيئة، أضحت الإسكندرية مسخاً بلا ملامح ولا روح!

المؤلم أن كل ما يحدث يُرتكب باسم “التنمية” و”التطوير”، بينما الحقيقة أن روح المدينة تُقتل يوماً بعد يوم. الإسكندرية اليوم مثال صارخ على كيف يمكن أن يتحول التاريخ والحضارة إلى أنقاض حية بفعل الإهمال وغياب الرؤية!

ومع ذلك، ما زال الأمل موجوداً إذا أردنا.

الإسكندرية يمكن أن تستعيد روحها لو كانت هناك إرادة حقيقية ورؤية ثقافية وحضارية، تحترم تراثها وهويتها الفريدة. ما تحتاجه الإسكندرية ليس مجرد مشروعات إسمنتية جديدة، بل رؤية حضرية متكاملة، تستشرف المستقبل دون أن تنكر الماضي، وتبني وتطور دون أن تطمس الهوية والروح، تحتاج رؤية تخطيطية تستفيد من موقعها الجغرافي ورصيدها الحضاري والثقافي الاستثنائي.

الإسكندرية تستحق أن تعود “عروس البحر الأبيض المتوسط” بحق، لا أن تظل مدينة مشوهة بلا هوية!

عبد العزيز الشناوي

رئيس المكتب السياسي لحزب العدل #حزب_العدل#صوت_الطبقة_المتوسطة#العدل_هو_الأمل

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة