د. حسام بدراوي | يكتب:
الطبقة المتوسطة والحراك السياسي
يستسهل المجتمع المصري أحيانا تكرار جملة “لم يعد لدينا طبقة متوسطة”، إشارة إلى ازدياد معدلات الفقر المالي، بدون تعريف لهوية هذه الطبقة ولا أهميتها.
يمكن أن يختلف تعريف الطبقة الوسطى استنادًا إلى عوامل إقتصادية واجتماعية وثقافية متعددة، ولكن لا يجب أن يعتمد هذا التقسيم على الملاءة المالية فقط.
لقد شاهدنا في مصر طبقات فقيرة وسقطت عليها الثروة بل والجاه أحيانا بشكل شرعي أو غير شرعي ولم تتغير عاداتها ولا ثقافتها، فهل انتقلوا من الطبقة الفقيرة إلى العليا فعلا؟! أم هو انتقال شكلي؟
الحقيقة أن الأجيال التالية لهؤلاء قد يُكونون طبقة جديدة بحكم تعليمهم الأفضل الذي يصبح متاحاً بحكم الثروة، ولكن قد يفتقر ذلك إلى تغير في القيم والأخلاق التي تميز الطبقة المتوسطة.
الطبقة الوسطى في خاطر المجتمع المصري تاريخياً كان يميزهم قدر من القيم ومستوى معين من الدخل يوفر لهم الاستقرار المالي، ويسمح بمعيشة مريحة وقدرة على تعليم جيد ورعاية صحية وبعض القدرة علي الإنفاق.
هذه الطبقة لديها القدرة على تحمل الاحتياجات الأساسية، والادخار للمستقبل، ومواجهة التحديات الاقتصادية دون الوقوع في براثن الفقر.
هذه الطبقة تمثل أيضاً مجموعة البشر القادرين على التوظيف والانخراط في المهن أو الوظائف المعتادة والماهرة التي توفر استقرار الحياة وفرص للتقدم.
هذه الطبقة كانت تشمل المدرسين والموظفين وأساتذة الجامعة وضباط الشرطة والجيش والقضاة والمحامين والتجار، بل والفلاحين الذين يتملكون الأراضي، وغيرهم ممن يعتمد عليهم المجتمع في الحركة والنمو.
قد يحدد الطبقة المتوسطة في بعض التعريفات قدرتها على تملك مكان السكن أو الوصول إلى استقرار سكني، مما يسهم في أمانهم الاجتماعي والمالي طويل الأمد.
وقد يحدد الاستهلاك وأسلوب الحياة ووجود الإمكانيات لتحمل تكاليف السلع والخدمات التقديرية، مثل الأنشطة الترفيهية والسفر أحياناً والسعي الثقافي، حدود هذه الطبقة أيضا.
من المهم ملاحظة أن تعريف الطبقة الوسطى يمكن أن يختلف من دولة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى، مع مراعاة الاختلافات في تكلفة المعيشة وإمكانية توفير حقوق المواطنين من من التعليم والرعاية الصحية، بغض النظر إلى إمكاناتهم المالية والاقتصادية. أي أن اتساع هذه الطبقة قد يتأتي من قدرة الحكومات على توفير هذه الحقوق.
في أحيان أخرى قد يستخدم علماء الاجتماع والاقتصاديين وواضعي السياسات معايير مختلفة لتعريف الطبقة الوسطى، حيث تلعب هذه الطبقة دورًا هامًا في الخيارات السياسية بسبب حجمها وتأثيرها الاقتصادي واستقرارها الاجتماعي.
الطبقة المتوسطة تترواح من ٥٠٪ إلى ٧٠٪ من السكان ويمكن تقسيمها إلى شرائح حسب قدراتها وتعريفاتها.
وفي إطار نظام حكم عادل، فإن هذه المجموعة السكانية رئيسية وحيوية، وغالبًا ما تحدد نتائج الانتخابات وأولويات السياسات؛ حيث تمثل مخاوفهم حول الضرائب والرعاية الصحية والتعليم وأمن الوظيفة وارتفاع الأسعار، تياراً يغير التوجهات السياسية ونتائج الانتخابات العامة أو الاحتجاجات.
هذه الطبقة قادرة على اتخاذ قرارات لحياتها، “وقد يكون ذلك أحد تعريفات وجودها”، فالطبقة الفقيرة يمكن شراء قرارتها بالمال وبتوفير الطعام في أوقات الانتخابات، ويمكن
تهديدها في نفس الوقت.
لكن الطبقة المتوسطة هي التي عندها مساحة حرية الإختيار، لذلك يمكن لناخبي الطبقة الوسطى أن يحسموا الانتخابات ويشكلوا السياسات العامة، مما يجعلهم محور اهتمام حملات الدعاية السياسية وخوف النظم الحاكمة منهم عند الأزمات.
علاوة على ذلك، تدعم الطبقة المتوسطة النمو الاقتصادي العام ويمكن أن تؤثر على الحركات الاجتماعية، مما يسهم في استقرار المجتمع، وتحفيز تطلعاتهم للتحرك الاجتماعي نحو الأعلى وتوفير الأمان المالي وحماية أسرهم.
بشكل عام، تعتبر الطبقة المتوسطة ركيزة أساسية للمجتمعات الديمقراطية، فهي تستطيع تشكيل القرارات السياسية وأجندات الحكومات.
في العديد من البلدان النامية، تواجه هذه الطبقة تحديات فريدة، قد تحد من تأثيرها على الخيارات، أهمها الضعف الاقتصادي وفرص العمل المحدودة وعدم المساواة في الدخل. ونتيجة لذلك، ينصب تركيزهم في المقام الأول على البقاء المالي والتحرك الاجتماعي نحو الأعلى، بدلاً من النشاط السياسي.
كذلك قد يعاني العديد من أفراد الطبقة المتوسطة في البلدان النامية من إمكانية الوصول المحدودة إلى المعلومات غير المتحيزة والتعليم المدني، يمكن أن يعيق قدرتهم على الاشتراك بفعالية في التنمية.
وقد تواجه هذه الطبقة تحديات سياسية من حكومات البلدان النامية، فقد تقمع هذه الحكومات الاختلاف السياسي وتحد من قدرة الطبقة المتوسطة على التعبير عن آرائهم والتأثير على القرارات الحيوية، مما يؤدي إلى نشر ثقافة الخوف واللامبالاة. قد تشعر الطبقة المتوسطة في البلدان النامية بأنها غير ممثلة في النظام السياسي، مما يؤدي إلى الإحباط والانفصال عن العملية السياسية.
أحد أهم التحديات أمام الطبقة المتوسطة هي العوائق الهيكلية في المجتمع، مثل تنتشار الفساد ونقص الشفافية وعدم المساواة في الوصول إلى الموارد، مما يؤثر على قدرة هذه الطبقة على التأثير في الاختيارات الاجتماعية والسياسية.
وقد تسقط الطبقة المتوسطة في فخ الجهل الديني الذي يملأ الفراغ الإجتماعي والسياسي من خلال استدامة الإضرار بالحقوق الإنسانية والظلم.
الطبقة العليا في المجتمعات كما قال ابن رشد، وضعها مختلف، فهي دائما على علاقة وثيقة بنظم الحكم، تدعمها لحماية نفسها واستدامة نمو ثروتها، وفي الأغلب تؤمِّن نفسها خارج البلاد خشية انقلاب السلطة عليها، ولكن تظل هذه التكاملية موجودة بدرجات مختلفة مع نظم الحكم، مما يسمح ببقاء السلطة بل وحقنها بالأموال مقابل ازدياد الثروة بنمو الفساد والإتاوات والإتاحات غير العادلة لفرص الاستثمار.
كل ذلك يحكمه توازن دقيق بين المستفيدين، ويتيح بقاء النظام الحاكم وبقاء استفادة شريحة عليا من الطبقة العليا لأطول مدة ممكنه، والذي إن اختل تسقط الدولة، ويبدأ نظام جديد في الأغلب يؤدي إلى نفس الوضع بلاعبين جدد!
لو نظرنا نظرة شاملة، لوجدنا أن نظم الحكم ضيقة الأفق ستسعى حتي بدون تخطيط مسبق، لزيادة مساحة الفقر وتقليص مساحة الطبقة الوسطى، فهذا أضمن للبقاء.
الغباء هنا أن ذلك يقلص فرصة النمو والتنمية الذي يعتمد على نمو وتنمية الطبقة المتوسطة التي هي أساس الاقتصاد الصغير وقطاع الأعمال المتوسط، والذي يُفرخ أجيال من المتعلمين القادرين على الابتكار والإبداع، الذين، بتوفير شبكة الأمان الإقتصادي والسكني والرعاية والتعليم، يستطيعون الارتفاع بمستوى الطبقة المتوسطة الثقافي والعلمي والاجتماعي، ولكنهم أيضا يصبحون قادرين على الاختيارات ويصعب التحكم فيهم.
إن هذا هو مفهوم وفلسفة الليبرالية الاجتماعية، كنظام وسياسة حكم، والذي لا يمكن استدامته سوى بتداول السلطة، كل عدد محدد من السنوات، حتى لا يستطيع أي نظام حكم أن يبني بقاءه على زيادة الفقر وتقليص الطبقة المتوسطة وخلق طبقة مستفيدة من بقاء الأمر على ما هو عليه.
الحجم الحرج الفعال للمتعلمين والمثقفين وأصحاب الفكر هو القادر على أخذ البلاد إلى مساحة أخرى من الأمل.
——————
وكنت قد ناقشت في مقال سابق القوى المجتمعية والسياسية المؤثرة في استقرار حكم مصر وحددتهم في تسع قوى، وتلعب الطبقة المتوسطة دوراً عابراً لكل هذه القوى، فهي الطبقة كما قلت المؤهلة للاختيارات، حيث أن الطبقة الفقيرة وتمثل أكثر من 30% من المجتمع لا تقوى على الاختيار في ظل احتياجاتها الضاغطة وخوفها من السلطة الحاكمة التي تملك العطاء والمنع. أما الطبقة الثرية فنسبتها صغيرة وعادة ما تستطيع الحصول على ما تريد أو الهروب من الضغوط المحلية عند اللزوم كما أسلفنا.
١- القوة الأولى، هي ثقافة أغلب المجتمع السياسي الحزبي بالسعي للاقتراب والتظلل بالسلطة التنفيذية. ولقد لاحظت أن رغبة هذا المجتمع السياسي تدور في فلك الخوف من اعتبارها معادية لنظام الحكم، والرغبة الصادقة في نفس الوقت في خدمة مجتمعها المحلي من خلال السلطة التنفيذية القائمة.
٢- القوة الثانية، هي قوه المال والتمويل. هذه القوة نفوذها يعتمد على أن نسبة الفقر تصل إلى أكثر من ٣٠٪ ونسبة الأمية تصل إلى ٢٥٪ من المجتمع.
٣- القوة الثالثة، هي الأيديولوجية الثورية والمعارضة الحادة بشكل عام على كل شئ، والتي تقدم هدماً لأي واقع بلا بدائل إيجابية. وتأثيرهم ينحصر في إيجاد صورة ذهنية سلبية في الداخل والخارج، للإيحاء أن مصر غير مستقرة وتستخدم كل الوسائل لتعظيم الاخطاء وتعميمها وأرى تأثيرهم في خلق واستدامة طاقة سلبية تستنزف المجتمع وتزيد حنق مجموعات من الشعب الذي يعاني وخاصة الشباب.
٤- القوة الرابعة، هي التيار السياسي اليساري المثقف، والذي يملك أيديولوچية ولا يعمل بها. هذا التيار قد يستطيع في لقطة ما تحريك الاعتصامات والاضرابات بين الموظفين والنقابات، ولكنه في أغلبها غير قادر على التأثر الإيجابي.
٥- القوة الخامسة، هي القوى الدينية المباشرة وغير المباشرة. والتي أخشى، لعدم شعبيتها الواضح الآن، من تغلغلها بين أوساط القوى الأخرى لركوب موجات الغضب وقت اللزوم والعمل المستمر لتوسيع الشقة بين الطموحات والواقع والتركيز على أخطاء الإدارة الحكومية في التعامل مع المجتمع. ولكن في هذا الوقت هي قوى لا تستطيع الفوز في الانتخابات إلا متوارية مع مجموعة ما أو حزب ما، ولا ننسى أن الإخوان قد تحالفوا مع حزب الوفد مرتين، وهو الحزب الليبرالي التاريخي، مرة عام ١٩٨٤، ومرة أخرى عام ٢٠١٢.
إنني أري أن هذه الكتلة الانتخابية ستظل تمثل جذباً للانتهازية السياسية في الحصول على الأصوات بأي شكل.
٦- القوة السادسة، هي حزب الكنبة كما سماه ذكاء الشعب المصري. وغالبيته من الطبقة المتوسطة التي تحتوي چينات الحضارة المصرية والحس الوطني. هذا التجمع إذا تحرك ستقف كل القوى الأخرى معه، والتجربة تقول أنه حتى الشرطة والقوات المسلحة لا تستطيع سوى الانضمام إليها في لحظات الحسم. هذه القوة هي ما سعت إليها القوات المسلحة في مواجهتها لقوى الحكم الديني. ما الذي يحرك هذه القوة وما الذي يحفزها أمر يحتاج إلى البحث الاجتماعي والتحليل السياسي.
٧- القوة السابعة، هي تجمع النخبة من رجال الدولة الذين يحظون باحترام المجتمع وحزب الكنبة والمؤمنين بالليبرالية الاجتماعية وبالدولة المدنية الحديثة، وشاركوا عبر تاريخهم في العمل السياسي بكل أشكاله وينأون بأنفسهم عن الاشتراك الفعلي حالياً، خوفا من التلوث بما هو دائر في عالم السياسة الحزبية بشكل لا يسمح بحرية الحركة ولا التعبير، ومما جعل أغلب من في المسرح السياسي إما موالي أو معارض شكلا أو عميل أو خائن.
هذه قوة تحظى بتأييد واحترام وشعبية ولكنها غير فاعلة ما لم تجد وسيلة تدمج فيها الفكر وتراكم الخبرة مع العمل المؤسسي السياسي وخاصة مع الشباب.
٨- القوة الثامنة، هي أجهزة الأمن الوطني والمخابرات، رغم الاختلافات بينهما في اعتبارات العمل السياسي، إلا أنهما يتحكمان في مداخل العمل الحزبي والإعلامي، ولأنني أحسن الظن فمدخلهما نابع من الاعتقاد والقناعة أن هذا التحكم والتدخل هو الذي يحفظ الاستقرار للبلاد ويمنع الفوضى.
٩- القوة التاسعة، هي مؤسسة القوات المسلحة، فوجودها محسوس، والجميع يعلم أنه بدون التوافق معها فلن يمكن للعمل السياسي أن ينمو ولا للمجتمع المدني أن يحقق تداولا للسلطة. أعتقد أن المؤسسة العسكرية المصرية المحترمة عبر الزمن، تمسك بزمام كل الأمور السياسية، بدون تدخل مباشر، وتملك زمام الكثير من الأمور الاقتصادية بتواجد مباشر.
لذلك أري أن إيجاد طريق سياسي جديد يتيح التواصل مع الشعب في إطار الوضع السياسي الحالي، يستدعي الكثير من التضحيات المتبادله بين القوى السياسية وبناء ثقة مع المؤسسة العسكرية.
إن إختيار عدد من الأحزاب ذات القدرة المؤسسية وإتاحة حرية حركة لها، وتشجيع كتلة النخبة التي تكلمت عنها لخبرتهم وقدرتهم سيكون مثل تكوين مجلس أمناء مدني غير حكومي للعمل السياسي الإيجابي الفعال.
اثنتان من القوى المؤثرة في السياسة المصرية هما رجال الجيش والشرطة، وتكوينهما الطبيعي يجئ من الطبقة الوسطى، ويتغير دورهم من المتلقي إلى المنفذ لسياسات الحكومات بحكم الوظيفة. ولكن كما قال لي حماي رحمة الله عليه، حسن أبو باشا، وكان وزيراً سياسياً محترماً للداخلية، أن الجنود والضباط هم تمثيل للأسر المصرية، وأكثر ما يخشاه قادتهم، هو لحظة دوران أفرادها خلفاً در، وبدلاً من مواجهة الجماهير الغاضبة في لحظة ما يكونوا جزءاً منها، لأنهم هم أيضا الشعب. لا يجب ولا يصح الفصل بين الجهازين والشعب، فمصر نسيج واحد شعب وشرطة وجيش.